الخميس، 21 مارس 2013

صناعة الطفل الربانى


عزيزي المربي:

لعل اليأس والقنوط قد أصابك وأنت تقرأ النماذج البراقة التي جمعتها لك في لقائنا السابق, خاصة وأنت تقارنها بنماذج منطفئة من أطفال اليوم.

ولكن لم لا؟

نعم، لم لا أخي المربي؟ لماذا لا يكون لأطفالنا هذه الربانية السامية.. لماذا؟ ألم يكن هؤلاء أطفال وأبناؤنا أيضًا أطفال؟!! وهم بشر ونحن أيضًا بشر؟! وهم معرضون للزلل والخطأ كما نحن معرضون؟! وأهم من ذلك كله أن رصيد الفطرة والنزعة الدينية موجودة عند كل بني البشر، مهما لوثته أدران المعاصي والأخلاق الفاسدة والعادات السيئة والتقاليد الذميمة.

الطفل ورقة بيضاء .. ناصعة البياض .. أنت أخي المربي ترسمها بيديك.

ومن كلام الإمام الغزالي رحمه الله: [ الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة, وهو قابل لكل نقش، مائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّدَ الخير وعُلِّمَه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكلٌ معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر وأُهمِل إهمال البهائم، شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له ]

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[ كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه ]].رواه مسلم.



وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه

إذًا, فيا قيِّم الطفل ويا مربيه, إن كنت ترجو له درجة عالية من الربانية والصلة بالله؛ فأنت الذي تغرس حباتها بيديك.. ومعك وأنت تبني هذه الربانية قوة لا حد لها, وهي الفطرة.. ومَعين لا مثيل له, وهي النزعة الدينية عند سائر البشر.

صفحتنا اليوم هدفها أن تشعرك بقدر القوة التي معك وأنت تربي طفلك, هذه القوة لخصناها لك في أربعة كلمات هي:



رصيد الفطرة والنزعة الدينية


فإذا جمعنا عليهما دورك التربوي مع طفلك؛ كان نتاج ذلك -بلا شك ولا ريب- الطفل الرباني.

أولاً: رصيد الفطرة يصنع الطفل الرباني:

الفطرة لغة هي: ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به، وقد فطره بفطرة، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}.

الفطرة: هي الخلقة التي يخلق عليها المولود في بطن أمه، قال تعالى: {الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}.

قال صلى الله عليه وسلم: 'كل مولود يولد على الفطرة'.

والفطرة اصطلاحًا: هي ما جبل عليه الإنسان في أصل الخلقة من الأشياء الظاهرة والباطنة، تلك الأشياء التي هي من مقتضى الإنسانية، والتي يكون الخروج عنها أو الإخلال بها خروجًا عن الإنسانية أو إخلالاً بها، وهذا المعنى يُفهم من كلام كثير من الأئمة كابن القيم وابن حجر وغيرهم.

الفطرة: شعور ذاتي كامن في النفس الإنسانية لا يفارقها، يحس الإنسان فيه بنقص ذاته، ووجود ذات كاملة، وهو بحاجة إليها، تلك الذات هي [الله سبحانه وتعالى].

وهذا ما عبر عنه ديكارت بأن وجود الله فطرة في النفس الإنسانية: [ إني مع شعوري بنقص ذاتي؛ أحس في الوقت ذاته بوجود ذات كاملة، وأراني مضطرًا للاعتقاد بأن هذا الشعور قد غرسه في ذاتي، تلك الذات الكاملة المتحلية بجميع صفات الكمال وهي 'الله' ].

من أبرز العلماء الذين اعتنقوا الفكرة الفطرية هو الأسكتلندي 'لينج' حيث قال: [ كل إنسان يحمل في نفسه 'فكرة العلية'، وأن هذه الفكرة كافية لتكوين العقيدة أن ثمة آلهة صانعة وخالقة للكون ].



* عزيزي المربي معك إذًا قوة لا تقهر اسمها 'رصيد الفطرة', ومن ثمار هذه القوة:

1ـ النداء الداخلي داخل أي إنسان لفعل الخير واجتناب الشر.

2ـ النفس اللوامة عند الإنسان فور فعله للشر.

3ـ الشعور الداخلي أنه لا بد من موت وبعث ونشور.

4ـ تحرر النفس الإنسانية من الخوف على الحياة والإيمان بالله والإقرار بوحدانيته؛ يحرر الإنسان من جميع العبوديات لغير الله.

5ـ تحرر النفس الإنسانية من الخوف على الرزق.

6ـ تحرر النفس الإنسانية من الشح والجشع.

7ـ يقظة الضمير.

8ـ تحرر الإنسان من عبودية القيم الاجتماعية الجاهلية.

9ـ الصبر على الشدائد والمحن.

10ـ تحرر النفس الإنسانية من الظلم.

11ـ تحرر العقل الإنساني من الخرافات.



إذًا أنت معك أخي المربي درة ثمينة أنت غافل عنها، فضلاً عن أنك تفسدها بدنو القدوات.

عزيزي المربي:

إن أردت استغلال هذه القوة الفطرية عليك بأمرين، لا يقل أحدهما أهمية عن الآخر:

الأول: كن قدوة لطفلك حتى لا تفسد هذه الفطرة الطاهرة.

الثاني: تعلَّم كيف تبني إيمان طفلك؛ حتى تقوي هذا الأساس الفطري وتبني عليه.

وهذا ما ستعرفه في لقاءاتنا القادمة من حديثنا حول الطفل الرباني.



ثانيًا: النزعة الدينية تدفع الطفل الرباني إلى الأمام:

النزعة الدينية: أي الرغبة في التدين: وهي وليدة الفطرة التي فطرها الله في قلوب العباد أجمعين؛ مؤمنهم وكافرهم.

الدين: مصدر استكمال النزعة الفطرية للاعتقاد وإشباع الميول الطبيعية للتدين, ولا شك أن الإيمان بالله عز وجل وعدم الشرك به والعبودية الخالصة له، هي مصدر شعور الإنسان بحرية واستقلالية ذاتيته، واعتداده بنفسه وكرامته.

الدين: يؤدي إلى تحقيق التكامل النفسي لدى الطفل بالإيمان واليقين في العقيدة, وهو ما يعتبر مصدرًا أساسيًا لسعادة الفرد وقوة عزيمته ونظرته الإيجابية للحياة.

الدين: يولد التفاؤل والسكينة والطمأنينة والسلام والأمن النفسي لدى الناشئ، ويغرس في نفسه الثقة والإقدام وحب الحياة، ويجنبه الصراع النفسي الذي ينجم من الشك والضلال والإلحاد.

الدين: مصدر كثير من الفضائل والقيم والمبادئ والمثل العليا، التي تغرس في نفس الناشئ منذ فجر حياته الأولى، وتنمو مع شخصيته.

الدين: يقوي لدى الفرد الشعور بالمسؤولية والالتزام النابع من نفسه، سواء كان ذلك في حضرة السلطة الخارجية أم أثناء غيابها، وبذلك يكفل الدين تماسك المجتمع واستقراره، ويضمن بقاءه واستمراره.

الدين: يلزم أفراد المجتمع الواحد بإقامة علاقاتهم الاجتماعية، وتعاملهم على أساس القيم: الحق والخير والعدل والنزاهة والتسامح والتعاطف، وبذلك تضمن السعادة لأفراد هذا المجتمع.

الدين: مصدر خصب لإشباع الميول والدوافع النفسية لدى الإنسان كالمشاركة الوجدانية، والتقليد والمحاكاة والاستهواء والإيحاء والانتماء الاجتماعي وغيرها، وبذلك فهو يقوي نزعة الإنسان للتكامل والتعاون مع غيره.

لذلك كله كانت نزعة الإنسان للتدين نزعة فطرية وقوية.

لأن الإنسان بحاجة للأمن النفسي والاطمئنان والسكينة، ولحاجته العقلية إلى استجلاء ما غمض عليه وعلى فهمه من شؤون الكون والحياة، وما خفي عليه من أمور الغيب المجهول، وحاجة البشرية إلى الدين والإيمان حاجة طبيعية لا يمكنها أن تستغني عنها مطلقًا، مهما بلغت النهضة الفكرية والتقدم العلمي، ذلك لأن كل ما يصنعه الإنسان غير كامل وغير ثابت، وهو خاضع للتغيير والتبدل المستمر، ولا غنى للإنسان عن إشباع حاجته إلى الإيمان بالكامل المطلق القادر مالك كل شيء  وهو الله عز وجل.



يطلب منه الهداية والعون، ويلجأ إليه في ساعات الضيق والحرج، ويستعين على مصاعبه وأزماته، ويسأله رفع الضر والأذى عنه, وبغير الدين والإيمان لا تستقيم للفرد حياته، ولا يهنأ باله، ولا تتوفر أسباب السكينة والأمن النفس؛ فيشعر بالضياع والتمزق النفسي، والاضطراب العصبي والعقلي، ولا يكون قادرًا على أن يعيش حياة سوية هادئة, وكثيرًا ما يؤدي الشك والإلحاد بالمرء إلى الانتحار وترك الدنيا التي يشعر ببؤسه وعذابه فيها، ولو كان مؤمنًا لكانت نظرته إلى الحياة نظرة التفاؤل والاستبشار، فيسعد لمسراتها ولذائذها، ويغالب مشاكلها ومصاعبها.

إن الإيمان هو منبع السعادة الحقيقية والأمن والطمأنينة النفسية، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.

عزيزي المربي:

انتهى بنا المطاف إلى هذه الحقيقة الواضحة:

 


'رصيد الفطرة يصنع الطفل الرباني'.


لأن هذا المخزون الفطري لست أنا ولا أنت الذين جبلناه في خلقة الطفل, بل رب البرية.. رب الأرباب.. خير مربٍ تبارك وتعالى هو الذي وضعه، وإنما علينا نحن فقط ألا نفسده, وأن نبني عليه إيمان أبنائنا.

وإنه مهما بعُد الإنسان عن ربه وضل وزاغ؛ فإن هناك ثمة نزعة قوية للتدين تشد الإنسان إلى الصلاح مرة أخرى؛ لأن الدين والتدين هو سبيل السعادة، ولأن الحياة في الضلال ظلم وظلمات.

هاتان القوتان هما:

رصيد الفطرة النزعة الدينية


هما من عند الله تبارك وتعالى، ليس لنا فيها فضل, بل الفضل كله منه وإليه.

ولكن لا بد أن نضيف إليهما الدور التربوي الذي يحافظ عليهما، وهو البناء الروحي أو التربية الروحية، عندها نستطيع الوصول إلى هذا النموذج السامي وهو الطفل الرباني.

إذًا معادلة النجاح هي:



رصيد الفطرة النزعة الدينية التربية الروحية = الطفل الرباني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق